فصل: تفسير الآيات (52- 68):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (23- 51):

{قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْ ءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)}
قوله تعالى: {قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ} لما غلب موسى فرعون بالحجة ولم يجد اللعين من تقريره على التربية وغير ذلك حجة رجع إلى معارضة موسى في قوله: {رسول رب العالمين}، فاستفهمه استفهاما عن مجهول من الأشياء. قال مكي وغيره: كما يستفهم عن الأجناس فلذلك استفهم بما. قال مكي: وقد ورد له استفهام بمن في موضع آخر ويشبه أنها مواطن، فأتى موسى بالصفات الدالة على الله من مخلوقاته التي لا يشاركه فيها مخلوق، وقد سأل فرعون عن الجنس ولا جنس لله تعالى، لان الأجناس محدثة، فعلم موسى جهله فأضرب عن سؤاله وأعلمه بعظيم قدرة الله التي تبين للسامع أنه لا مشاركة لفرعون فيها. فقال فرعون: {أَلا تَسْتَمِعُونَ} على معنى الإغراء والتعجب من سفه المقالة إذ كانت عقيدة القوم أن فرعون ربهم ومعبودهم والفراعنة قبله كذلك. فزاد موسى في البيان بقوله: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} فجاء بدليل يفهمونه عنه، لأنهم يعلمون أنه قد كان لهم آباء وأنهم قد فنوا وأنه لا بد لهم من مغير، وأنهم قد كانوا بعد أن لم يكونوا، وأنهم لا بد لهم من مكون. فقال فرعون حينئذ على جهة الاستخفاف: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} أي ليس ملكه كملكك، لأنك إنما تملك بلد واحدا لا يجوز أمرك في غيره، ويموت من لا تحب أن يموت، والذي أرسلني يملك المشرق والمغرب {وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}.
وقيل: علم موسى عليه السلام أن قصده في السؤال معرفة من سأل عنه، فأجاب بما هو الطريق إلى معرفة الرب اليوم. ثم لما انقطع فرعون لعنه الله في باب الحجة رجع إلى الاستعلاء والتغلب فتوعد موسى بالسجن، ولم يقل ما دليلك على أن هذا الاله أرسلك، لان فيه الاعتراف بأن ثم إلها غيره.
وفي توعده بالسجن ضعف. وكان فيما يروى أنه يفزع منه فزعا شديدا حتى كان اللعين لا يمسك بوله. وروي أن سجنه كان أشد من القتل وكان إذا سجن أحدا لم يخرجه من سجنه حتى يموت، فكان مخوفا. ثم لما كان عند موسى عليه السلام من أمر الله تعالى ما لا يرعه توعد فرعون {قالَ} له على جهة اللطف به والطمع في إيمانه: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} فيتضح لك به صدقي، فلما سمع فرعون ذلك طمع في أن يجد أثناءه موضع معارضة {فقال} له {فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}. ولم يحتج الشرط إلى جواب عند سيبويه، لان ما تقدم يكفي منه. {فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ} من يده فكان ما أخبر الله من قصته. وقد تقدم بيان ذلك وشرحه في الأعراف إلى آخر القصة.
وقال السحرة لما توعدهم فرعون بقطع الأيدي والأرجل {لا ضَيْرَ} أي لا ضرر علينا فيما يلحقنا من عذاب الدنيا، أي إنما عذابك ساعة فنصبر لها وقد لقينا الله مؤمنين. وهذا يدل على شدة استبصارهم وقوه إيمانهم. قال مالك: دعا موسى عليه السلام فرعون أربعين سنة إلى الإسلام، وأن السحرة آمنوا به في يوم واحد. يقال: لا ضير ولا ضور ولا ضر ولا ضرر ولا ضارورة بمعنى واحد، قال الهروي. وأنشد أبو عبيده:
فإنك لا يضورك بعد حول ** أظبي كان أمك أم حمار

وقال الجوهري: ضاره يضوره ويضيره ضيرا وضورا أي ضره. قال الكسائي: سمعت بعضهم يقول لا ينفعني ذلك ولا يضورني. والتضور الصياح والتلوي عند الضرب أو الجوع. والضورة بالضم الرجل الحقير الصغير الشأن. {إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ} يريد ننقلب إلى رب كريم رحيم {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ}. {أَنْ} في موضع نصب، أي لان كنا. وأجاز الفراء كسرها على أن تكون مجازاة. ومعنى {أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} أي عند ظهور الآية ممن كان في جانب فرعون. الفراء: أول مؤمني زماننا. وأنكره الزجاج وقال: قد روي أنه آمن معه ستمائة ألف وسبعون ألفا، وهم الشرذمة القليلون الذين قال فيهم فرعون: {إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} روي ذلك عن ابن مسعود وغيره.

.تفسير الآيات (52- 68):

{وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)}
قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} لما كان من سنته تعالى في عباده إنجاء المؤمنين المصدقين من أوليائه، لمعترفين برسالة رسله وأنبيائه، وإهلاك الكافرين المكذبين لهم من أعدائه، أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل ليلا وسماهم عباده، لأنهم آمنوا بموسى. ومعنى {إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} أي يتبعكم فرعون وقومه ليردوكم.
وفي ضمن هذا الكلام تعريفهم أن الله ينجيهم منهم، فخرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل سحرا، فترك الطريق إلى الشام على يساره وتوجه نحو البحر، فكان الرجل من بني إسرائيل يقول له في ترك الطريق فيقول: هكذا أمرت. فلما أصبح فرعون وعلم بسري موسى ببني إسرائيل، خرج في أثرهم، وبعث إلى مدائن مصر لتلحقه العساكر، فروي أنه لحقه ومعه مائة ألف أدهم من الخيل سوى سائر الألوان. وروي أن بني إسرائيل كانوا ستمائة ألف وسبعين ألفا. والله أعلم بصحته. وإنما اللازم من الآية الذي يقطع به أن موسى عليه السلام خرج بجمع عظيم من بني إسرائيل وأن فرعون تبعه بأضعاف ذلك. قال ابن عباس: كان مع فرعون ألف جبار كلهم عليه تاج وكلهم أمير خيل. والشرذمة الجمع القليل المحتقر والجمع الشراذم. قال الجوهري: الشرذمة الطائفة من الناس والقطعة من الشيء. وثوب شراذم أي قطع. وأنشد الثعلبي قول الراجز:
جاء الشتاء وثيابي أخلاق ** شراذم يضحك منها النواق

النواق من الرجال الذي يروض الأمور ويصلحها، قاله في الصحاح. واللام في قوله: {لَشِرْذِمَةٌ} لام توكيد وكثيرا ما تدخل في خبر إن، إلا أن الكوفيين لا يجيزون إن زيدا لسوف يقوم. والدليل على أنه جائز قوله تعالى: {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} وهذه لام التوكيد بعينها وقد دخلت على سوف، قاله النحاس. {وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ} أي أعداء لنا لمخالفتهم ديننا وذهابهم بأموالنا التي استعاروها على ما تقدم. وماتت أبكارهم تلك الليلة. وقد مضى هذا في الأعراف وطه مستوفي. يقال: غاظني كذا وأغاظني. والغيظ الغضب ومنه التغيظ والاغتياظ. أي غاظونا بخروجهم من غير إذن. {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ} أي مجتمع أخذنا حذرنا وأسلحتنا. وقرئ: {حاذرون} ومعناه معنى {حاذِرُونَ} أي فرقون خائفون. قال الجوهري: وقرئ: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ} و{حاذِرُونَ} و{حاذرون} بضم الذال حكاه الأخفش، ومعنى {حاذِرُونَ} متأهبون، ومعنى {حاذِرُونَ} خائفون. قال النحاس: {حذرون} قراءة المدنيين وأبي عمرو، وقراءة أهل الكوفة: {حاذرون} وهي معروفة عن عبد الله بن مسعود وابن عباس، و{حادرون} بالدال غير المعجمة قراءة أبي عباد وحكاها المهدوي عن ابن أبي عمار، والماوردي والثعلبي عن سميط بن عجلان. قال النحاس: أبو عبيدة يذهب إلى أن معنى {حذرون} و{حاذرون} واحد. وهو قول سيبويه وأجاز: هو حذر زيدا، كما يقال: حاذر زيدا، وأنشد:
حذر أمورا لا تضير وآمن ** ما ليس منجيه من الاقدار

وزعم أبو عمر الجرمي أنه يجوز هو حذر زيدا على حذف من. فأما أكثر النحويين فيفرقون بين حذر وحاذر، منهم الكسائي والفراء ومحمد بن يزيد، فيذهبون إلى أن معنى حذر في خلقته الحذر، أي متيقظ متنبه، فإذا كان هكذا لم يتعد، ومعنى حاذر مستعد وبهذا جاء التفسير عن المتقدمين. قال عبد الله بن مسعود في قول الله عز وجل: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ} قال: مؤدون في السلاح والكراع مقوون، فهذا ذاك بعينه. وقوله: مؤدون معهم أداة. وقد قيل: إن المعنى: معنا سلاح وليس معهم سلاح يحرضهم على القتال، فأما {حادرون} بالدال المهملة فمشتق من قولهم عين حدرة أي ممتلئة، أي نحن ممتلئون غيظا عليهم، ومنه قول الشاعر:
وعين لها حدرة بدرة ** شقت مآقيهما من أخر

وحكى أهل اللغة أنه يقال: رجل حادر إذا كان ممتلئ اللحم، فيجوز أن يكون المعنى الامتلاء من السلاح. المهدوي: الحادر القوي الشديد. قوله تعالى: {فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} يعني من أرض مصر. وعن عبد الله بن عمرو قال: كانت الجنات بحافتي النيل في الشقتين جميعا من أسوان إلى رشيد، وبين الجنات زروع. والنيل سبعة خلجان: خليج الإسكندرية، وخليج سخا، وخليج دمياط، وخليج سردوس، وخليج منف، وخليج الفيوم، وخليج المنهي متصلة لا ينقطع منها شيء عن شي، والزروع ما بين الخلجان كلها. وكانت أرض مصر كلها تروى من ستة عشر ذراعا بما دبروا وقدروا من قناطرها وجسورها وخلجانها، ولذلك سمي النيل إذا غلق ستة عشر ذراعا نيل السلطان، ويخلع على ابن أبي الرداد، وهذه الحال مستمرة إلى الآن. وإنما قيل نيل السلطان لأنه حينئذ يجب الخراج على الناس. وكانت أرض مصر جميعها تروى من إصبع واحدة من سبعة عشر ذراعا، وكانت إذا غلق النيل سبعة عشر ذراعا ونودي عليه إصبع واحد من ثمانية عشر ذراعا، ازداد في خراجها ألف ألف دينار. فإذا خرج عن ذلك ونودي عليه إصبعا واحدا من تسعة عشر ذراعا نقص خراجها ألف ألف دينار. وسبب هذا ما كان ينصرف في المصالح والخلجان والجسور والاهتمام بعمارتها. فأما الآن فإن أكثرها لا يروى حتى ينادى إصبع من تسعة عشر ذراعا بمقياس مصر. وأما أعمال الصعيد الأعلى، فإن بها ما لا يتكامل ريه إلا بعد دخول الماء في الذراع الثاني والعشرين بالصعيد الأعلى. قلت: أما أرض مصر فلا تروى جميعها الآن إلا من عشرين ذراعا وأصابع، لعلو الأرض وعدم الاهتمام بعمارة جسورها، وهو من عجائب الدنيا، وذلك أنه يزيد إذا انصبت المياه في جميع الأرض حتى يسيح على جميع أرض مصر، وتبقى البلاد كالأعلام لا يوصل إليها إلا بالمراكب والقياسات.
وروى عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: نيل مصر سيد الأنهار، سخر الله له كل نهر بين المشرق والمغرب، وذلل الله له الأنهار، فإذا أراد الله أن يجرى نيل مصر أمر كل نهر أن يمده، فأمدته الأنهار بمائها، وفجر الله له عيونا، فإذا انتهى إلى ما أراد الله عز وجل، أوحى الله تبارك وتعالى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره.
وقال قيس بن الحجاج: لما افتتحت مصر أتى أهلها إلى عمرو بن العاص حين دخل بئونة من أشهر القبط فقالوا له: أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجرى إلا بها، فقال لهم: وما ذاك؟ فقالوا: إذا كان لاثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها، أرضينا أبويها، وحملنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل، فقال لهم عمرو: هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام ليهدم ما قبله. فأقاموا أبيب ومسري لا يجرى قليل ولا كثير، وهموا بالجلاء. فلما رأى ذلك عمرو بن العاص كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فأعلمه بالقصة، فكتب إليه عمر بن الخطاب: إنك قد أصبت بالذي فعلت، وأن الإسلام يهدم ما قبله ولا يكون هذا. وبعث إليه ببطاقة في داخل كتابه. وكتب إلى عمرو: إنى قد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابي، فألقها في النيل إذا أتاك كتابي. فلما قدم كتاب عمر إلى عمرو بن العاص أخذ البطاقة ففتحها فإذا فيها: من عبد الله أمير المؤمنين عمر إلى نيل مصر- أما بعد- فإن كنت إنما تجرى من قبلك فلا تجر وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك. قال: فألقى البطاقة في النيل قبل الصليب بيوم وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها، لأنه لا تقوم مصلحتهم فيها إلا بالنيل. فلما ألقى البطاقة في النيل، أصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله في ليلة واحدة ستة عشر ذراعا، وقطع الله تلك السيرة عن أهل مصر من تلك السنة. قال كعب الأحبار: أربعة أنهار من الجنة وضعها الله في الدنيا سيحان وجيحان والنيل والفرات، فسيحان نهر الماء في الجنة، وجيحان نهر اللبن في الجنة، والنيل نهر العسل في الجنة، والفرات نهر الخمر في الجنة.
وقال ابن لهيعة: الدجلة نهر اللبن في الجنة. قلت: الذي في الصحيح من هذا حديث أبى هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة» لفظ مسلم وفى حديث الاسراء من حديث أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رجل من قومه قال: «وحدث نبى الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه رأى أربعة أنهار يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت يا جبريل ما هذه الأنهار قال أما النهران الباطنان فنهران في الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات» لفظ مسلم.
وقال البخاري من طريق شريك عن أنس: «فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان فقال ما هذان النهران يا جبريل قال هذا النيل والفرات عنصرهما ثم مضى في السماء فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من اللؤلؤ والزبرجد فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر فقال ما هذا يا جبريل فقال هذا هو الكوثر الذي خبأ لك ربك» وذكر الحديث. والجمهور على أن المراد بالعيون عيون الماء.
وقال سعيد بن جبير: المراد عيون الذهب.
وفي الدخان {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ}. قيل: إنهم كانوا يزرعون ما بين الجبلين من أول مصر إلى آخرها. وليس في الدخان {وكنوز} جمع كنز، وقد مضى هذا في سورة براءة والمراد بها ها هنا الخزائن. وقيل: الدفائن.
وقال الضحاك: الأنهار، وفية نظر، لان العيون تشملها. {وَمَقامٍ كَرِيمٍ} قال ابن عمر ابن عباس ومجاهد: المقام الكريم المنابر، وكانت ألف منبر لألف جبار يعظمون عليها فرعون وملكه.
وقيل: مجالس الرؤساء والأمراء، حكاه ابن عيسى وهو قريب من الأول.
وقال سعيد بن جبير: المساكن الحسان.
وقال ابن لهيعة: سمعت أن المقام الكريم الفيوم.
وقيل: كان يوسف عليه السلام قد كتب على مجلس من مجالسه: لا إله إلا الله إبراهيم خليل الله فسماها الله كريمة بهذا.
وقيل: مرابط الخيل لتفرد الزعماء بارتباطها عدة وزينة، فصار مقامها أكرم منزل بهذا، ذكره الماوردي. والأظهر أنها المساكن الحسان كانت تكرم عليهم. والمقام في اللغة يكون الموضع ويكون مصدرا. قال النحاس: المقام في اللغة الموضع، من قولك قام يقوم، وكذا المقامات واحدها مقامة، كما قال:
وفيهم مقامات حسان وجوههم ** وأندية ينتابها القول والفعل

والمقام أيضا المصدر من قام يقوم. والمقام بالضم الموضع من أقام. والمصدر أيضا من أقام يقيم. قوله تعالى: {كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ} يريد أن جميع ما ذكره الله تعالى من الجنات والعيون والكنوز والمقام الكريم أورثه الله بنى إسرائيل. قال الحسن وغيره: رجع بنو إسرائيل إلى مصر بعد هلاك فرعون وقومه وقيل: أراد بالوراثة هنا ما استعاروه من حلى آل فرعون بأمر الله تعالى. قلت: وكلا الأمرين حصل لهم. والحمد لله. {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} أي فتبع فرعون وقومه بنى إسرائيل. قال السدى: حين أشرقت الشمس بالشعاع.
وقال قتادة: حين أشرقت الأرض بالضياء. قال الزجاج: يقال شرقت الشمس إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت. واختلف في تأخر فرعون وقومه عن موسى وبنى إسرائيل على قولين: أحدهما-
لاشتغالهم بدفن أبكارهم في تلك الليلة، لان الوباء في تلك الليلة وقع فيهم، فقوله: {مُشْرِقِينَ} حال لقوم فرعون.
الثاني- إن سحابة أظلتهم وظلمة فقالوا: نحن بعد في الليل فما تقشعت عنهم حتى أصبحوا.
وقال أبو عبيدة: معنى {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} ناحية المشرق. وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون: {فاتبعوهم مشرقين} بالتشديد وألف الوصل، أي نحو المشرق، مأخوذ من قولهم: شرق وغرب إذا سار نحو المشرق والمغرب. ومعنى الكلام قدرنا أن يرثها بنو إسرائيل فاتبع قوم فرعون بنى إسرائيل مشرقين فهلكوا، وورث بنو إسرائيل بلادهم. قوله تعالى: {فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ} أي تقابلا الجمعان بحيث يرى كل فريق صاحبه، وهو تفاعل من الرؤية. {قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} أي قرب منا العدو ولا طاقة لنا به. وقراءة الجماعة: {لمدركون} بالتخفيف من أدرك. ومنه {حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ}. وقرأ عبيد بن عمير والأعرج والزهري {لمدركون} بتشديد الدال من أدرك. قال الفراء: حفر واحتقر بمعنى واحد، وكذلك {لمدركون} و{لمدركون} بمعنى واحد. النحاس: وليس كذلك يقول النحويون الحذاق، إنما يقولون: مدركون ملحقون، ومدركون مجتهد في لحاقهم، كما يقال: كسبت بمعنى أصبت وظفرت، واكتسبت بمعنى اجتهدت وطلبت وهذا معنى قول سيبويه. قوله تعالى: {قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} لما لحق فرعون بجمعه جمع موسى وقرب منهم، ورأت بنو إسرائيل العدو القوى والبحر أمامهم ساءت ظنونهم، وقالوا لموسى على جهة التوبيخ والجفاء: {إنا لمدركون} فرد عليهم قولهم وزجرهم وذكرهم وعد الله سبحانه له بالهداية والظفر {كَلَّا} أي لم يدركوكم {إِنَّ مَعِي رَبِّي} أي بالنصر على العدو. {سَيَهْدِينِ} أي سيدلنى على طريق النجاة، فلما عظم البلاء على بنى إسرائيل، ورأوا من الجيوش ما لا طاقة لهم بها، أمر الله تعالى موسى أن يضرب البحر بعصاه، وذلك أنه عز وجل أراد أن تكون الآية متصلة بموسى ومتعلقة بفعل يفعله، وإلا فضرب العصا ليس بفارق للبحر، ولا معين على ذلك بذاته إلا بما اقترن به من قدرة الله تعالى واختراعه. وقد مضى في البقرة قصة هذا البحر. ولما انفلق صار فيه اثنا عشر طريقا على عدد أسباط بنى إسرائيل، ووقف الماء بينها كالطود العظيم، أي الجبل العظيم. والطود الجبل، ومنه قول امرئ القيس:
فبينا المرء في الأحياء طود ** رماه الناس عن كثب فمالا

وقال الأسود بن يعفر:
حلوا بأنقرة يسيل عليهم ** ماء الفرات يجئ من أطواد

جمع طود أي جبل. فصار لموسى وأصحابه طريقا في البحر يبسا، فلما خرج أصحاب موسى وتكامل آخر أصحاب فرعون، على ما تقدم في يونس انصب عليهم وغرق فرعون، فقال بعض أصحاب موسى: ما غرق فرعون، فنبذ على ساحل البحر حتى نظروا إليه.
وروى ابن القاسم عن مالك قال: خرج مع موسى عليه السلام رجلان من التجار إلى البحر فلما أتوا إليه قالا له بم أمرك الله؟ قال: أمرت أن أضرب البحر بعصاي هذه فينفلق، فقالا له: افعل ما أمرك الله فلن يخلفك، ثم ألقيا أنفسهما في البحر تصديقا له، فما زال كذلك البحر حتى دخل فرعون ومن معه، ثم ارتد كما كان. وقد مضى هذا المعنى في سورة البقرة. قوله تعالى: {وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ} أي قربناهم إلى البحر، يعني فرعون وقومه. قاله ابن عباس وغيره، قال الشاعر:
وكل يوم مضى أو ليلة سلفت ** فيها النفوس إلى الآجال تزدلف

أبو عبيدة: {أَزْلَفْنا} جمعنا ومنه قيل لليلة المزدلفة ليلة جمع. وقرأ أبو عبد الله بن الحرث وأبى بن كعب وابن عباس: {وَأَزْلَفْنا} بالقاف على معنى أهلكناهم، من قوله: أزلقت الناقة وأزلقت الفرس فهي مزلق إذا أزلقت ولدها. {وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} يعني فرعون وقومه. {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً} أي علامة على قدرة الله تعالى.
{وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} لأنه لم يؤمن من قوم فرعون إلا مؤمن آل فرعون واسمه حزقيل وابنته آسية امرأة فرعون، ومريم بنت ذا موسى العجوز التي دلت على قبر يوسف الصديق عليه السلام. وذلك أن موسى عليه السلام لما خرج ببني إسرائيل من مصر أظلم عليهم القمر فقال لقومه: ما هذا؟ فقال علماؤهم: إن يوسف عليه السلام لما حضره الموت أخذ علينا موثقا من الله ألا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا. قال موسى: فأيكم يدري قبره؟ قال: ما يعلمه إلا عجوز لبنى إسرائيل، فأرسل إليها، فقال: دليني على قبر يوسف، قالت: لا والله لا أفعل حتى تعطيني حكمي، قال: وما حكمك؟ قالت: حكمي أن أكون معك في الجنة، فثقل عليه، فقيل له: أعطها حكمها، فدلتهم عليه، فاحتفروه واستخرجوا عظامه، فلما أقلوها، فإذا الطريق مثل ضوء النهار في رواية: فأوحى الله إليه أن أعطها ففعل، فأتت بهم إلى بحيرة، فقالت لهم: أنضبوا هذا الماء فأنضبوه واستخرجوا عظام يوسف عليه السلام، فتبينت لهم الطريق مثل ضوء النهار. وقد مضى في يوسف.
وروى أبو بردة عن أبى موسى أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نزل بأعرابي فأكرمه، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «حاجتك قال: ناقة أرحلها وأعنزا أحبلها، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: فلم عجزت أن تكون مثل عجوز بنى إسرائيل فقال أصحابه: وما عجوز بنى إسرائيل؟ فذكر لهم حال هذه العجوز التي احتكمت على موسى أن تكون معه في الجنة».